ليست النيران التي اجتاحت غابات لبنان في الأيام الماضية هي الوحيدة التي أخفقت السلطة في اختبار مواجهتها، ذلك أنّ مجموعة أخرى من الحرائق السياسية والاقتصادية والمالية والبيئية لا تزال «مشتعلة» منذ وقت طويل داخل الدولة، ومن بينها حريق ملف النزوح الذي يُلقي بأعباء ثقيلة على لبنان.
حسمَ وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل خياره وقرّر زيارة دمشق، متسلّحاً بغطاء كامل من رئيس الجمهورية وبعدم ممانعة من رئيس الحكومة، على قاعدة أنّ معالجة ملف النازحين السوريين لم تعد تحتمل أي تأخير، خصوصاً أنّ المجتمع الدولي لا يبذل الجهد الكافي لتسهيل عودتهم الى بلادهم، بل انّ بعضه متواطئ ومتورّط في «جُرم» إبقائهم في لبنان، عبر مَنحهم «حوافز» تُشجّعهم على البقاء بدل العودة، على الرغم من أنّ المساحة الأوسع من الاراضي السورية باتت آمنة.
ولعلّ أهم ما حقّقه باسيل في خطاب الأحد الماضي في الحدت، وفق انطباعات بعض المتابعين، أنه رمى حجراً كبيراً في المياه الراكدة وكَسر «التابو» الذي كان يمثّله خيار التفاوض المباشر على أعلى المستويات الرسمية مع الدولة السورية، بعدما كان «التيار الوطني الحر» يَتهيّب طيلة المرحلة الماضية رفع مستوى التواصل مع دمشق، من باب مراعاة حساسية التوازنات الداخلية والاقليمية.
أكثر ما يهمّ باسيل في هذه اللحظة هو موقف الرئيس سعد الحريري الذي انطوى بيانه بعد خطاب الحدت على مقدار كبير من البراغماتية، والأرجح أنّ باسيل لا يريد أكثر من ذلك الآن، أمّا خصومه في الحكومة فقرّر أن يتجاهلهم، كما تبيّن من سلوكه في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء، مطمئناً الى أنهم لا يملكون في ظل موازين القوى الحالية سوى التعامل مع زيارته المرتَقبة لدمشق باعتبارها «أمراً واقعاً»، مهما كانت معارضتهم لها قاسية.
وما يعزّز «الأسباب الموجبة» لاندفاعة باسيل نحو التحاور المباشر مع القيادة السورية، هو أنّ المبادرة الروسية لحل أزمة النزوح تعثّرت نتيجة افتقارها الى التمويل المطلوب والدعم السياسي الضروري من الجهات الدولية المؤثرة، التي لا تزال تربط تَجاوبها مع أيّ خطط للعودة او إعادة الإعمار بإنجاز الحل السياسي وفق مواصفاتها.
وإذا كانت حسابات بعض العواصم الغربية لم تتطابق ومضمون المبادرة الروسية، إلّا أنّ ذلك لا يعني انّ موسكو انكفأت عن الاهتمام بملف النازحين تِبعاً لِما يؤكده زوّارها أخيراً.
ويوضِح العائدون من موسكو أنّ القيادة الروسية يهمها تأمين عودة أكبر عدد ممكن من النازحين قبل موعد إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، لأنها تريد لهؤلاء أن يشاركوا في تلك الانتخابات وهم موجودون في وطنهم وليس في الدول المضيفة، وذلك للتخفيف من أي تاثيرات أو ضغوط خارجية محتملة على وجهة تصويتهم.
ويصرّ الروس، تِبعاً لزوارهم، على رفض الربط بين عودة النازحين والحل السياسي الشامل، وهم يلفتون الى أنّ دمشق تبدو أكثر سلاسة وإيجابية حيال متطلبات معالجة ملف النازحين المنتشرين في لبنان بالمقارنة مع أولئك الموجودين في الأردن وتركيا.
وتفيد المعلومات أنّ موسكو تبحث في إمكان عقد مؤتمر موسّع في تركيا حول قضية النزوح السوري، وهي ناقشت هذه الفكرة مع وزير الدولة اللبناني لشؤون النازحين صالح الغريب، الذي أبلغ اليها أنه لن يشارك في أي مؤتمر من هذا النوع لا يضمّ دمشق، متمنياً الحصول على مساعدتها للضغط على الاوروبيين من أجل تسهيل عودة النازحين.
كذلك عُلم أنّ موسكو تدرس احتمال تنظيم مؤتمر آخر يتعلق بإعادة إعمار سوريا، على ان تتولى هي استضافته، إذا توافرت شروط انعقاده ونجاحه.
ويعتبر الروس أنّ الاوروبيين هم من المسؤولين الاساسيين عن عرقلة رجوع النازحين الى وطنهم، لأنهم يشترطون التوَصّل الى حل سياسي قبل المساهمة في أي دور أو جهد حقيقي لإنهاء أزمة النزوح.
ويؤكد أحد المعنيين اللبنانيين بملف النازحين أنّ حلّه يكاد ينحصر باعتماد أحد خيارين: إمّا التواصل الرسمي المباشر مع دمشق، وإمّا تشجيع النازحين على الانتقال الى أوروبا التي ستكون مضطرة الى تغيير سلوكها عندما تشعر بـ«السخن»، وتتدفق القوارب على شواطئها بكل ما تحمله من أعداد وأعباء.
واللافت في ما تحويه جعبة العائدين من روسيا إشارتهم الى أنّ موسكو تتصرف على أساس أنّ واشنطن تخرج من المنطقة، واستنتاجهم أنّ هناك نوعاً من التفاهم الضمني بين موسكو وأنقرة على أنّ الجيش التركي يدخل الى الشمال السوري، ثم يخرج منه. كذلك، ينقل الزوار عن الروس اقتناعهم بأنّ عودة سوريا الى الجامعة العربية باتت مسألة وقت ليس إلّا.